الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)}.قوله: {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ {قرية} وإن كانَتْ نكرةً؛ لأنَّها في سياقِ النفي.قوله: {بما أُرْسِلْتُمْ} متعلقٌ بخبر إنَّ و {به} متعلِّقٌ ب {أُرْسِلْتُمْ}. والتقدير: إنَّا كافرون بالذي أُرْسِلْتم به، وإنما قُدِّم للاهتمامِ. وحَسَّنه تواخي الفواصلِ. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}.قوله: {وَيَقْدِرُ} أي: يُضَيِّق بدليل مقابلتِه ل {يَبْسُط}. وهذا هو الطباقُ البديعيُّ. وقرأ الأعمش {ويُقَدِّر} بالتشديد في الموضعين. {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)}.قوله: {بالتي تُقَرِّبُكُمْ} صفةٌ للأموالِ والأولادِ؛ لأنَّ جمعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدة. وقال الفراء والزجَّاج: إنَّه حذفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه. قالا: والتقدير وما أموالُكم بالتي تُقَرِّبُكم عندنا زُلْفَى، ولا أولادُكم بالتي تُقَرِّبُكم. وهذا لا حاجةَ إليه أيضًا. ونُقِل عن الفراء ما تقدَّمَ: مِنْ أنَّ {التي} صفةٌ للأموالِ والأولادِ معًا. وهو الصحيح. وجعل الزمخشري {التي} صفةً لموصوفٍ محذوفٍ. قال: ويجوزُ أَنْ تكون هي التقوى وهي المقرِّبةُ عند الله زُلْفَى وحدها أي: ليسَتْ أموالُكم وأولادُكم بتلك الموصوفةِ عند الله بالتقريبِ. وقال الشيخ: ولا حاجةَ إلى هذا الموصوفِ قلت: والحاجةُ إليه بالنسبة إلى المعنى الذي ذكره داعيةٌ.قوله: {زُلْفَى} مصدرٌ مِنْ معنى الأول، إذ التقدير: تُقَرِّبكم قُرْبى. وقرأ الضحَّاك {زُلَفًا} بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمعُ زُلْفَى نحو: قُرْبَة وقُرَب. جُمِع المصدرُ لاختلافِ أنواعِه.قوله: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه استثناء منقطعٌ فهو منصوبُ المحلِّ. الثاني: أنه في محلِّ جَرّ بدلًا من الضمير في {أموالكم}. قاله الزجاج. وغَلَّطه النحاس: بأنه بدلٌ من ضمير المخاطب. قال: ولو جاز هذا لجازَ رَأَيْتُك زيدًا. وقولُ أبي إسحاقَ هذا هو قولُ الفراء. انتهى.قال الشيخ: ومذهبُ الأخفش والكوفيين أنه يجوزُ البدلُ مِنْ ضميرِ المخاطبةِ والمتكلم؛ إلاَّ أنَّ البدلَ في الآيةِ لا يَصِحُّ؛ ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تفريغُ الفعلِ الواقعِ صلةً لما بعد إلا لو قلتَ: ما زيدٌ بالذي يَضْرِب إلاَّ خالدًا لم يَجُزْ. وَتَخَيَّلَ الزجَّاجُ أنَّ الصلةَ- وإن كانَتْ مِنْ حيث المعنى منفيَّةً- أنه يجوزُ البدلُ، وليس بجائزٍ، إلاَّ أَنْ يَصِحَّ التفريغُ له. قلت: ومَنْعُهُ قولَك: ما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ خالدًا فيه نظرٌ، لأنَّ النفيَ إذا كان مُنْسَحبًا على الجملة أُعْطي حُكْمَ ما لو باشَرَ ذلك الشيءَ. ألا ترى أنَّ النفيَ في قولك ما ظننتُ أحدًا يَفْعلُ ذلك إلاَّ زيدٌ سَوَّغَ البدلَ في زيد مِنْ ضميرِ يَفْعَل وإنْ لم يكنِ النفيُ مُتَسَلِّطًا عليه. قالوا: ولكنه لمَّا كان في حَيِّزِ النفي صَحَّ فيه ذلك، فهذا مثلُه.والزمخشريُّ أيضًا تَبع الزجَّاجَ والفراء في ذلك من حيث المعنى، إلاَّ أنَّه لم يَجْعَلْه بدلًا بل منصوبًا على أصل الاستثناء، فقال: إلاَّ مَنْ آمنَ استثناء من كم في تُقَرِّبُكم. والمعنى: أنَّ الأموالَ لا تُقَرِّبُ أحدًا إلاَّ المؤمنَ الذي يُنْفقها في سبيلِ الله. والأولاد لا تُقَرِّبُ أحدًا إلاَّ مَنْ عَلَّمهم الخيرَ، وفَقَّهَهم في الدين، ورَشَّحهم للصلاح.ورَدَّ عليه الشيخُ بنحوِ ما تقدَّم فقال: لا يجوزُ: ما زيدٌ بالذي يَخْرُج إلاَّ أخوه، وما زيدٌ بالذي يَضْرب إلاَّ عَمْرًا. والجوابُ عنه ما تقدم، وأيضًا فالزمخشريُّ لم يجعَلْه بدلًا بل استثناء صريحًا، ولا يُشْتَرَطُ في الاستثناء التفريغُ اللفظيُّ بل الإِسنادُ المعنويُّ، ألا ترى أنك تقول: قام القومُ إلاَّ زيدًا ولو فَرَّغْتَه لفظًا لامتنع؛ لأنه مُثْبَتٌ. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ هو الوجهُ الثالثُ في المسألة.الرابع: أنَّ {مَنْ آمَنَ} في محلِّ رفع على الابتداء. والخبرُ قولُه: {فأولئك لَهُمْ جَزَاء الضعف}. وقال الفراء: هو في موضعٍ رفعٍ تقديرُه: ما هو المقرَّب إلاَّ مَنْ آمن وهذا لا طائلَ تحته. وعَجِبْتُ من الفَرَّاء كيف يقوله؟وقرأ العامَّةُ: {جزاء الضِّعْفِ} مضافًا على أنه مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، أي: أَنْ يُجازِيَهم الضِّعْفَ. وقَدَّره الزمخشريُّ مبنيًَّا للمفعول أي: يُجْزَوْن الضِّعْفَ. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ الصحيحَ مَنْعُه. وقرأ قتادة برفعِهما على إبدالِ الضِّعْف مِنْ {جزاء}. وعنه أيضًا وعن يعقوبَ بنصبِ {جزاء} على الحال. والعاملُ فيها الاستقرار، وهذه كقولِه: {فَلَهُ جَزَاء الحسنى} [الكهف: 88] فيمَنْ قرأ بنصبِ {جزاء} في الكهف.قوله: {في الغُرُفاتِ} قرأ حمزةُ {الغُرْفَة} بالتوحيد على إرادةِ الجنس ولعدمِ اللَّبْسِ؛ لأنه مَعْلومٌ أنَّ لكلِّ أحدٍ غرفةً تَخُصُّه. وقد أُجْمِعَ على التوحيدِ في قوله: {يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] ولأنَّ لفظَ الواحدِ أخفُّ فوُضِعَ مَوْضِعَ الجمعِ مع أَمْنِ اللَّبْسِ. والباقون {الغُرُفات} جمعَ سَلامة. وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفًَا} [العنكبوت: 58] والرسمُ مُحْتَمِلٌ للقراءتَيْن. وقرأ الحسن بضمِّ راء {غُرُفات} على الإِتباع. وبعضُهم يَفْتحها. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك أول البقرة. وقرأ ابنُ وثَّاب {الغُرُفَة} بضمِّ الراء والتوحيد. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}.قوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ} يجوزُ أَنْ تكونَ ما موصولةً في محلِّ رَفْعٍ بالابتداء. والخبرُ قولُه: {فهو يُخْلِفُه} ودخلتِ الفاء لشَبَهِه بالشرطِ. و {مِنْ شَيْءٍ} بيانٌ، كذا قيلَ. وفيه نظرٌ لإِبهامِ {شيء} فأيُّ تبيينٍ فيه؟ الثاني: أَنْ تكونَ شرطيةً فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولًا مقدَّمًا، و {فهو يُخْلِفُه} جوابُ الشرطِ.قوله: {الرازِقين} إنما جُمِع من حيث الصورةُ؛ لأنَّ الإِنسانَ يرزقُ عيالَه مِنْ رزقِ اللَّهِ، والرازقُ في الحقيقة للكلِّ إنما هو الله تعالى. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)}.قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ} قد تقدَّم أنه يُقْرأ بالنونِ والياء في الأنعام.قوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} {إيَّاكم} منصوبٌ بخبر كان، قُدِّمَ لأجلِ الفواصلِ والاهتمامِ. واسْتُدِلَّ به على جوازِ تقديم خبر كان عليها إذا كان خبرُها جملةً فإنَّ فيه خلافًا: جَوَّزه ابن السَّراج، ومنعَه غيرُه. وكذلك اختلفوا في: توسُّطه إذا كان جملةً، قال ابن السَّراج: القياسُ جوازُه، ولكنْ لم يُسْمَعْ. قلت: قد تقدَّم في قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] ونحوه أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ تقديمِ الخبرِ وأَنْ لا يكون. ووجهُ الدلالةِ هنا: أنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديمِ العاملِ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في هود عند قولِه: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا} [هود: 8] ومَنْعُ هذه القاعدةِ. {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}.قوله: {التي كُنتُم بِهَا} صفةُ النارِ، وفي السجدة وَصْفُ العذاب. قيل: لأنَّ ثَمَّ كانوا مُلْتَبسين بالعذابِ متردِّدِين فيه فَوُصِفَ لهم ما لابَسُوه، وهنا لم يُلابِسُوه بَعْدُ؛ لأنه عَقيبُ حَشْرِهم. {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.قوله: {يَدْرُسُونَهَا} العامَّةُ على التخفيفِ مضارعَ درس مخففًا أي: حَفِظَ. وأبو حيوةَ {يَدَّرِسُوْنَها} بفتح الدال مشددةً وكسرِ الراء. والأصلُ يَدْتَرِسُوْنها من الادِّراس على الافتعالِ فأُدْغم. وعنه أيضًا بضمِّ الياء وفتحِ الدالِ وشَدِّ الراء من التدريس.قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ} أي: إلى هؤلاء المعاصرين لك لم نُرْسِلْ إليهم نذيرًا يُشافِهُهم بالنِّذارةِ غيرَك، فلا تَعارُضَ بينَه وبينَ قولِه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] إذِ المرادُ هناك آثارُ النَّذيرِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا كان موجودًا، يَذْهَبُ النبيُّ، وتَبْقَى شريعتُه. {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}.قوله: {وَمَا بَلَغُواْ} الظاهرُ أن الضميرُ في {بَلَغُوا} وفي {آتيناهم} للذين مِنْ قبلهم ليناسِقَ قوله: {فكذَّبُوا رُسُلي} بمعنى: أنهم لم يَبْلُغوا في شُكْر النِّعْمَة وجزاء المِنَّةِ مِعْشارَ ما آتيناهم من النعمِ والإِحسانِ إليهم. وقيل: بل ضميرُ الرفع لقريشٍ والنصبِ للذين مِنْ قبلهم، وهو قولُ ابنِ عباس على معنى أنهم كانوا أكثرَ أموالًا. وقيل: بالعكس على معنى: إنَّا أَعْطَيْنا قريشًا من الآياتِ والبراهينِ ما لم نُعْطِ مَنْ قبلَهم.واخْتُلِفَ في المِعْشار فقيل: هو بمعنى العُشْرِ، بنى مِفْعال مِنْ لفظِ العُشْر كالمِرْبَاع، ولا ثالثَ لهما من ألفاظِ العدد لا يقال: مِسْداسَ ولا مِخْماس. وقيل: هو عُشْرُ العُشْرِ. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيَّة أنكره وقال: {ليس بشيء}. وقال الماوردي: المِعْشارُ هنا: هو عُشْرُ العُشَيْرِ، والعُشَيْرُ هو عُشْرُ العُشْر، فيكون جزءًا من ألفٍ. قال: وهو الأظهرُ؛ لأنَّ المرادَ به المبالغةَ في التقليل.قوله: {فَكَذَّبوا} فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوف على {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ}. والثاني: أنه معطوف على {وما بَلَغُوا} وأوضحَهما الزمخشريُّ فقال: فإنْ قُلْتَ: ما معنى {فكذَّبُوا رُسُلي} وهو مستغنى عنه بقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ}؟ قلت: لمَّا كان معنى قولِه: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} وفَعَلَ الذين مِنْ قبلِهم التكذيبَ، وأَقْدَمُوا عليه جُعِلَ تكذيبُ الرسلِ مُسَبَّبًا عنه. ونظيرُه أَنْ يقولَ القائلُ: أقدمَ فلانٌ على الكفر فَكَفَرَ بمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. ويجوزُ أَنْ يُعْطَفَ على قَولِه: {وما بَلَغوا} كقولك: ما بلغ زيدٌ مِعْشارَ فضل عمروٍ فتَفَضَّلَ عليه.و {نَكير} مصدرٌ مضافٌ لفاعِله أي: إنكاري. وتقدَّمَ حَذْفُ يائِه وإثباتُها. اهـ.
|